فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)} وهاهنا مباحث:
المبحث الأول:
قرأ حمزة والكسائي {السدين} بضم السين و{سدًا} بفتحها حيث كان، وقرأ حفص عن عاصم بالفتح فيهما في كل القرآن، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالضم فيهما في كل القرآن، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {السدين} و{سدًا} هاهنا بفتح السين فيهما وضمها في يس في الموضعين قال الكسائي: هما لغتان، وقيل: ما كان من صنعة بني آدم فهو السد بفتح السين، وما كان من صنع الله فهو السد بضم السين والجمع سدد، وهو قول أبي عبيدة وابن الأنباري، قال صاحب الكشاف: السد بالضم فعل بمعنى مفعول أي هو مما فعله الله وخلقه، والسد بالفتح مصدر حدث يحدثه الناس.
البحث الثاني:
الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال، وقيل: جبلان بين أرمينية وبين أذربيجان، وقيل: هذا المكان في مقطع أرض الترك، وحكى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنسانًا إليه من ناحية الخزر فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع، وذكر ابن خرداذبة في كتاب المسالك والممالك أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن من حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل، ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند، قال أبو الريحان: مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة، والله أعلم بحقيقة الحال.
البحث الثالث:
أن ذا القرنين لما بلغ ما بين السدين وجد من دونهما أي من ورائهما مجاوزًا عنهما {قَوْمًا} أي أمة من الناس: {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} قرأ حمزة والكسائي: {يفقهون} بضم الياء وكسر القاف على معنى لا يمكنهم تفهيم غيرهم والباقون بفتح الياء والقاف، والمعنى أنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم وما كانوا يفهمون اللسان الذي يتكلم به ذو القرنين، ثم قال تعالى: {قَالُواْ يا ذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ في الأرض} فإن قيل: كيف فهم ذو القرنين منهم هذا الكلام بعد أن وصفهم الله بقوله: {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} والجواب: أن نقول كاد فيه قولان.
الأول: أن إثباته نفي، ونفيه إثبات، فقوله: {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} لا يدل على أنهم لا يفهمون شيئًا، بل يدل على أنهم قد يفهمون على مشقة وصعوبة.
والقول الثاني: أن كاد معناه المقاربة، وعلى هذا القول فقوله: {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} أي لا يعلمون وليس لهم قرب من أن يفقهوا.
وعلى هذا القول فلابد من إضمار، وهو أن يقال: لا يكادون يفهمونه إلا بعد تقريب ومشقة من إشارة ونحوها، وهذه الآية تصلح أن يحتج بها على صحة القول الأول في تفسير كاد.
البحث الرابع:
في يأجوج ومأجوج قولان: الأول: أنهما اسمان أعجميان موضوعان بدليل منع الصرف.
والقول الثاني: أنهما مشتقان، وقرأ عاصم يأجوج ومأجوج بالهمز.
وقرأ الباقون ياجوج وماجوج.
وقرئ في رواية آجوج ومأجوج، والقائلون بكون هذين الاسمين مشتقين ذكروا وجوهًا.
الأول: قال الكسائي: يأجوج مأخوذ من تأجج النار وتلهبها فلسرعتهم في الحركة سموا بذلك ومأجوج من موج البحر.
الثاني: أن يأجوج مأخوذ من تأجج الملح وهو شدة ملوحته فلشدتهم في الحركة سموا بذلك.
الثالث: قال القتيبي: هو مأخوذ من قولهم أج الظليم في مشيه يئج أجًا إذا هرول وسمعت حفيفه في عدوه.
الرابع: قال الخليل: الأج حب كالعدس والمج مج الريق فيحتمل أن يكونا مأخوذين منهما واختلفوا في أنهما من أي الأقوام فقيل: إنهما من الترك، وقيل: {يَأْجُوجَ} من الترك {وَمَأْجُوجَ} من الجيل والديلم ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة بكون طول أحدهم شبرًا ومنهم من وصفهم بطول القامة وكبر الجثة وأثبتوا لهم مخاليب في الأظفار وأضراسًا كأضراس السباع واختلفوا في كيفية إفسادهم في الأرض فقيل: كانوا يقتلون الناس وقيل كانوا يأكلون لحوم الناس وقيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون لهم شيئًا أخضر وبالجملة فلفظ الفساد محتمل لكل هذه الأقسام، والله أعلم بمراده، ثم إنه تعالى حكى عن أهل ما بين السدين أنهم قالوا لذي القرنين: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا} قرأ حمزة والكسائي {خراجًا} والباقون {خرجًا}.
قيل: الخراج والخرج واحد، وقيل هما أمران متغايران، وعلى هذا القول اختلفوا: قيل: الخرج بغير ألف هو الجعل لأن الناس يخرج كل واحد منهم شيئًا منه فيخرج هذا أشياء وهذا أشياء، والخراج هو الذي يجبيه السلطان كل سنة.
وقال الفراء: الخراج هو الاسم الأصلي والخرج كالمصدر وقال قطرب: الخرج الجزية والخراج في الأرض.
فقال ذو القرنين: {مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى} أي ما جعلني مكينًا من المال الكثير واليسار الواسع خير مما تبذلون من الخراج فلا حاجة بي إليه، وهو كما قال سليمان عليه السلام: {فَمَا ءاتانى الله خَيْرٌ مّمَّا ءاتاكم} [النمل: 36] قرأ ابن كثير: {ما مكنني} بنونين على الإظهار والباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام، ثم قال ذو القرنين: {فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} أي لا حاجة لي في مالكم ولكن {أعينوني} برجال وآلة أبني بها السد، وقيل المعنى: {أعينوني} بمال أصرفه إلى هذا المهم ولا أطلب المال لآخذه لنفسي، والردم هو السد.
يقال: ردمت الباب أي سددته وردمت الثوب رقعته لأنه يسد الخرق بالرقعة والردم أكثر من السد من قولهم: ثوب مردوم أي وضعت عليه رقاع. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَك خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}.
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: الْخَرْجُ: الْجَزَاءُ وَالْأُجْرَةُ، وَكَانَ مَلِكًا يَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ، وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ جَزَاءً فِي أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ مَا يَجِدُونَهُ مِنْ عَادِيَةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَعَلَى الْمَلِكِ فَرْضُ أَنْ يَقُومَ بِحِمَايَةِ الْخَلْقِ فِي حِفْظِ بَيْضَتِهِمْ، وَسَدِّ فُرْجَتِهِمْ، وَإِصْلَاحِ ثَغْرِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي تَفِيءُ عَلَيْهِمْ، وَحُقُوقِهِمْ الَّتِي يَجْمَعُهَا خَزَنَتُهُمْ تَحْتَ يَدِهِ وَنَظَرِهِ، حَتَّى لَوْ أَكْلَتهَا الْحُقُوقُ، وَأَنْفَدَتْهَا الْمُؤَنُ، وَاسْتَوْفَتْهَا الْعَوَارِضُ، لَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبْرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَعَلَيْهِ حُسْنُ النَّظَرِ لَهُمْ، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:
الْأَوَّلُ: أَلَّا يَسْتَأْثِرَ بِشَيْءٍ عَلَيْهِمْ.
الثَّانِي: أَنْ يَبْدَأَ بِأَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ فَيُعِينُهُمْ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُسَوِّيَ فِي الْعَطَاءِ بَيْنَهُمْ عَلَى مِقْدَارِ مَنَازِلِهِمْ، فَإِذَا فَنِيَتْ بَعْدَ هَذَا ذَخَائِرُ الْخِزَانَةِ وَبَقِيَتْ صِفْرًا فَأَطْلَعَتْ الْحَوَادِثُ أَمْرًا بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ قَبْلَ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ فَأَمْوَالُهُمْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيرٍ، وَتُصْرَفُ بِأَحْسَنِ تَدْبِيرٍ.
فَهَذَا ذُو الْقَرْنَيْنِ لَمَّا عَرَضُوا عَلَيْهِ الْمَالَ قَالَ: لَسْت أَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَحْتَاجُ إلَيْكُمْ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ، أَيْ اخْدِمُوا بِأَنْفُسِكُمْ مَعِي، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ عِنْدِي وَالرِّجَالَ عِنْدَكُمْ؛ وَرَأَى أَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تُغْنِي دُونَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إنْ أَخَذُوهَا أُجْرَةً نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَعَادَ عَلَيْهِمْ بِالْأَخْذِ، فَكَانَ التَّطَوُّعُ بِخِدْمَةِ الْأَبْدَانِ أَوْلَى.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ الْفَيْءِ وَالْخَرَاجِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا شَافِيًا، وَهَذَا الْقَدْرُ يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَتَمَامُهُ هُنَالِكَ.
وَضَبْطُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَخْذُ مَالِ أَحَدٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ تَعْرِضُ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ الْمَالُ جَهْرًا لَا سِرًّا، وَيُنْفَقُ بِالْعَدْلِ لَا بِالِاسْتِئْثَارِ، وَبِرَأْيِ الْجَمَاعَةِ لَا بِالِاسْتِبْدَادِ بِالرَّأْيِ.
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} بالفتح قرأ ابن كثير وابو عمرو وعاصم في رواية حفص. وقرأ الباقون {بين السُّدين} وبالضم، واختلف فيهما على قولين.
أحدهما: أنهما لغتان معناهما واحد.
الثاني: أن معناهما مختلف.
وفي الفرق بينهما ثلاثة أوجه:
أحدها: أن السد بالضم من فعل الله عز وجل وبالفتح من فعل الآدميين.
الثاني: أنه بالضم الاسم، وبالفتح المصدر، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك. والسدان جبلان، قيل إنه جعل الروم بينهما، وفي موضعهما قولان:
أحدهما: فيما بين إرمينية وأذربيجان.
الثاني: في منقطع الترك مما يلي المشرق.
{وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} أي من دون السدين، وفي {يَفْقَهُونَ} قراءتان:
إحداهما: بفتح الياء والقاف يعني أنهم لا يفهمون كلام غيرهم.
والقراءة الثانية: بضم الياء وكسر القاف، أي لا يفهم كلامهم غيرهم.
قوله عز وجل: {قَالُواْ يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} وهما من ولد يافث بن نوح، واسمهما مأخوذ من أجت النار إذا تأججت، ومنه قول جرير:
وأيام أتين على المطايا ** كأن سمومهن أجيج نارٍ

واسمها في الصحف الأولى ياطغ وماطغ. وكان أبو سعيد الخدري يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَمُوتُ الرَّجُلُ منهُمْ حتى يُولَدُ لِصُلْبِهِ أَلْفُ رَجُلٍ». واختلف في تكليفهم على قولين:
أحدهما: أنهم مكلفون لتمييزهم.
الثاني: أنهم غير مكلفين لأنهم لو كلفوا لما جاز ألاَّ تبلغهم دعوة الإسلام.
{فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} قرأ حمزة والكسائي: {خَرَاجًا} وقرأ الباقون: {خَرْجًا} وفي اختلاف القراءتين ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الخراج الغلة، والخرج الأجرة.
الثاني: أن الخراج اسم لما يخرج من الأرض، والخرج ما يؤخذ عن الرقاب، قاله أبو عمرو بن العلاء.
الثالث: أن الخرج ما يؤخذ دفعة، والخراج ثابت مأخوذ في كل سنة، قاله ثعلب.
قوله عز وجل: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} يعني خير من الأجر الذي تبذلونه لي.
{فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} فيه وجهان:
أحدهما: بآلة، قاله الكلبي.
الثاني: برجال، قاله مقاتل.
{أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} فيه وجهان:
أحدهما: أنه الحجاب الشديد.
الثاني: أنه السد المتراكب بعضه على بعض فهو أكبر من السد. اهـ.

.قال ابن عطية:

{حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ}.
والسدان فيما ذكر أهل التفسير، جبلان سدا مسالك تلك الناحية من الأرض، وبين طرفي الجبلين فتح، هو موضع الردم، قال ابن عباس: الجبلان اللذان بينهما السد: أرمينية وأذربيجان، وقالت فرقة: هما من وراء بلاد الترك، ذكره المهدوي.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله غير متحقق، وإنما هما في طريق الأرض مما يلي المشرق ويظهر من ألفاظ التواريخ، أنه إلى ناحية الشمال، وأما تعيين موضع فيضعف، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم: {السُّدين} بضم السين، وكذلك {سُدًا} حيث وقع، وقرأ حفص عن عاصم بفتح ذلك كله من جميع القرآن، وهي قراءة مجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي، وقرأ ابن كثير {السَّدين} بفتح السين وضم {سدًا} في يس، واختلف بعد فقال الخليل وسيبويه: الضم هو الاسم والفتح هو المصدر، وقال الكسائي: الضم والفتح لغتان بمعنى واحد، وقرأ عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة ما كان من خلقة الله لم يشارك فيه أحد بعمل فهو بالضم، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح.
قال القاضي أبو محمد: ويلزم أهل هذه المقالة أن يقرأ: {بين السُّدين} بالضم وبعد ذلك {سَدًا} بالفتح، وهي قراءة حمزة والكسائي، وحكى أبو حاتم عن ابن عباس وعكرمة عكس ما قال أبو عبيدة، وقال ابن أبي إسحاق: وما رأته عيناك فهو سُد بالضم، وما لا يرى فهو سَد بالفتح، والضمير في {دونهما} عائد على الجبلين، أي: وجدهم في الناحية التي تلي عمارة الناس إلى المغرب، واختلف في القوم، فقيل: هم بشر، وقيل جن، والأول أصح من وجوه، وقوله: {لا يكادون يفقهون قولًا} عبارة عن بعد السانهم عن ألسنة الناس، لكنهم فقهوا وأفهموا بالترجمة ونحوها، وقرأ حمزة والكسائي: {يُفقهون} من أفقه، وقرأ الباقون: {يَفقهون} من فقه، والضمير في {قالوا}: للقوم الذين من دون السدين، و{يأجوج ومأجوج}: قبيلتان من بني آدم لكنهم ينقسمون أنواعًا كثيرة، اختلف الناس في عددها، فاختصرت ذكره لعدم الصحة، وفي خلقهم تشويه: منهم المفرط الطول، ومنهم مفرط القصر، على قدر الشبر، وأقل، وأكثر، ومنهم صنف: عظام الآذان، الأذن الواحدة وبرة والأخرى زعرى يصيف بالواحدة ويشتو في الأخرى وهي تعمه، واختلفت القراءة فقرأ عاصم وحده {يأجوج ومأجوج} بالهمز وقرأ الباقون: {ياجوج وماجوج} بغير همزة فأما من همز، فاختلف: فقالت فرقة: هو أعجمي علتاه في منع الصرف: العجمة والتأنيث، وقالت فرقة: هو معرب من أجج وأج، علتاه في منع الصرف التعريف والتأنيث، وأما من لم يهمز فإما أن يراهما اسمين أعجميين، وإما أن يسهل من الهمز، وقرأ رؤبة بن العجاج: {آجوج ومأجوج} بهمزة بدل الياء، واختلف الناس في إفسادهم الذي وصفوهم به، فقال سعيد بن عبد العزيز: إفسادهم: أكل بني آدم، وقالت فرقة إفسادهم إنما عندهم توقعًا، أي سيفسدون، فطلبوا وجه التحرز منهم، وقالت فرقة: إفسادهم هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر، وهذا أظهر الأقوال، لأن الطائفة الشاكية إنما تشكت من ضرر قد نالها، وقولهم {فهل نجعل لك خرجًا} استفهام على جهة حسن الأدب، والخرج: المجبي، وهو الخراج، وقال فوم: الخرج: المال يخرج مرة، والخراج المجبي المتكرر، فعرضوا عليه أن يجمعوا له أموالًا يقيم بها أمر السد، قال ابن عباس {خرجًا}: أجرًا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم {خرجًا} وقرأ حمزة والكسائي: {خراجًا} وهي قراءة طلحة بن مصرف والأعمش والحسن بخلاف عنه وروي في أمر {يأجوج ومأجوج} أن أرزاقهم هي من التنين يمطرونها، ونحو هذا مما لم يصح، وروي أيضًا أن الذكر منهم لا يموت حتى يولد له ألف، والأنثى لا تموت حتى تخرج من بطنها ألف، فهم لذلك إذا بلغوا العدد ماتوا، ويروى أنهم يتناكحون في الطرق كالبهائم، وأخبارهم تضيق بها الصحف، فاختصرتها لضعف صحتها وقوله: {قال ما مكني} الآية، المعنى قال لهم ذو القرنين: ما بسطه الله لي من القدرة والملك، خير من خرجكم وأموالكم، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، ويعمل منكم بالأيدي، وقرأ ابن كثير {ما مكنني} بنونين، وقرأ الباقون: {ما مكني} بإدغام النون الأولى في الثانية، وهذا من تأييد الله تعالى لذي القرنين، فإنه تهدما في هذه المحاورة إلى الأنفع الأنزه، فإن القوم، لو جمعوا له خرجًا لم يمنعه منهم أحد، ولوكلوه إلى البنيان، ومعونتهم بالقوة أجمل به، وأمر يطاول مدة العمل، وربما أربى على المخرج، والردم أبلغ من السد، إذ السد كل ما سد به، والردم وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع، ومنه ردم ثوبه: إذا رقعه برقاع متكاثفة، بعضها فوق بعض، ومنه قول الشاعر: الكامل:
هل غادر الشعراء من متردم ** أي من قول يركب بعضه على بعض

اهـ.